فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (104- 109):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
{قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} الذي أدعوكم إليه.
{فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} قال ابن عباس: عملك. وقيل: نفسك، أي استقم على الدين {حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة».
{وَلاَ تَدْعُ} تعبد {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ} إن أطعته {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن عصيته {فَإِن فَعَلْتَ} فعبدت غير الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} الضارّين لأنفسهم، الواضعين العبادة في غير موضعها {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} يصبْك الله ببلاء وشدّة {فَلاَ كَاشِفَ} دافع {لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} رخاء ونعمة {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} فلا مانع لرزقه.
{يُصَيبُ بِهِ} واحد من الضر والخير {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم * قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} يعني القرآن فيه البيان.
{فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي له ثواب اهتدائه {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فعلى نفسه جنا {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
{واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله} من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}.
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» قال أنس: فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره الله به.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال: مالك لا تلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال: ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاصبروا حتى تلقوني»، قالوا: إذاً نصبر، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ** أمير المؤمنين ثنا كلام

فإنّا صابرون ومنظروكم ** إلى يوم التغابنوالخصام

.سورة هود:

مكية، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، محمد بن علي بن محمد، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال: قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب، قال: «شيبتني هود وأخواتها: الحاقة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية».
وعن زيد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال: يا زيد قرأت، فأين البكاء؟.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}
{الر كِتَابٌ} قيل {الر} مبتدأ وكتاب خبره، وقيل: كتاب رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا كتاب {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} قال ابن عباس: أُحكمت آياته: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيّنت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية: فُصّلت: فُسِّرت {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تعبدوا} يحتمل أن يكون موضع أن رفعاً على مضمر تقديره: وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصباً بنزع الخافض تقديره: ثم فُصِّلت أن لا تعبدوا {إِلاَّ الله} أو لئلاّ تعبدوا إلاّ الله.
{إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ} من الله {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وأن عطف على الأول {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة، وقال الفرّاء: ثُمّ هاهنا بمعنى الواو أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} أي يعيشكم عيشاً في منن ودعة وأمن وسعة رزق، {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الموت {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويؤتِ كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه سمى فضله باسم الابتداء.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع سنات ثم قال: هلك من غلبت آحاده عشراته.
وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف، ثم يدخلون الجنة بعد، وقال أبو العالية: من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد: إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده ورجله، أو ما يتصدّق به من حق ماله.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو يوم القيامة.
{إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعدواة، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد: يثنون صدورهم شكّاً وامتراءً، السدّي: يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم [..............].
عن عبد الله بن شداد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم. قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره.
ابن زيد: هذا حين يناجي بعضهم بعضاً في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وقال ابن عباس: يثنون صدورهم على وزن يحنون، جعل الفعل للصدور أي يلقون.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطّون رؤوسهم بثيابهم، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه.
{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * وَمَا مِن دَآبَّةٍ} من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض، وقال بعض العلماء: كل ما أُكل فهو دابة.
{إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوباً، وقال بعضهم: {على} بمعنى (من) أي من الله رزقها، ويدل عليه قول مجاهد، قال: ما جاء من رزق فمن الله، ربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً، ولكن ما كان من رزق فمن الله.
{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهاراً، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها، قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي، ومستودعها حيث تموت، مجاهد: مستقرها في الرحم ومستودعها في الصلب، عبد الله: مستقرها الرحم، ومستودعها المكان الذي تموت فيه، الربيع: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت، ومن حيث تبعث.
وقيل: يعلم مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها القبر، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 76] و{سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66].
{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.

.تفسير الآيات (7- 16):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}
{وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب: خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، يرتعد من مخافة الله تعالى ثمّ خلق الريح فجعل الماء على قشرة ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة: إنّ الله تعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض بالحق، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجدّه قبل أن يخلق شيئاً من الخلق.
{لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم وهو أعلم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله».
قال ابن عباس: أيّكم أعمل بطاعة الله. قال مقاتل: أيّكم أتقى لله، الحسن: أيّكم أزهد في الدنيا زاهداً وأقوى لها تركاً.
{وَلَئِن قُلْتَ} يا محمد {إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعنون القرآن، ومن قرأ: ساحر ردّه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى أجل معدود ووقت محدود، وأصل الأُمّة الجماعة، وإنما قيل للحين: أُمّة، لأن فيه يكون الأُمّة، فكأنه قال: إلى مجيء أُمّة وانقراض أُخرى قبلها، كقوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
{لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون أنه ليس بشيء. قال الله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} خبر ليس عنهم. {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} سعة ونعمة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا} سلبناها {مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} قنوط في الشدّة {كَفُورٌ} في النعمة.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} بعد بلاء وشدة {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني} زالت الشدائد عني {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أشر بطر، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 1-3].
{فَلَعَلَّكَ} يا محمد {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} فلا تبلِّغه إياهم، وذلك أن مشركي مكة قالوا: آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا.
{وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ} لأن يقولوا {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} ينفقه {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه، قال عبد الله بن أُمية المخزومي قال الله: يا أيها النذير {ليس عليك إلاّ البلاغ} والله على كل شيء وكيل {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} مثله {مُفْتَرَيَاتٍ} بزعمكم {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله: {ياأيها الرسل} [المؤمنون: 51] ويعني الرسول.
وقال مجاهد: عنى به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} يعني القرآن {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} لفظه استفهام ومعناه أمر.
{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا {وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا ينقصون. قتادة يقول: من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحسن من محسن فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة».
واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم: هي للكفار، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا، ويدل عليه قوله: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} في الدنيا {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال مجاهد: هم أهل الربا.
وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قيل: أبو هريرة.
قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس، فلما سكت وخلا، قلت: وانشدك الله لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته فقال: لأحدّثنّك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ثم غشي عليه ثم أفاق فقال: أحدثك حديثاً حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ولم يكن أحد غيره وغيري، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال: فأرى على وجهه ثمّ استغشى طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا العباد ليقضي بينهم، وكل أُمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ: ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: ماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟
قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قُتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك»
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة».
قال الوليد: وأخبرني غيره أن شقياً دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية وضرب خدّيه حتى ظننّا أنه هالك، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال: صدق الله ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وقرأ إلى قوله: {بَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.